|
الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فمن قال: ثمانية أشهر، أشار إِلى مدَّة حملها باطنًا وظاهرًا، ومن قال: ستة أشهر، فهي مدة حملها إِلى حين صِرامها، ومن قال: بُكرة وعشية، أشار إِلى الاجتناء منها، ومن قال: سنة، أشار إِلى أنها لاتحمل في السنة إِلاَّ مَرَّة، ومن قال: شهران، فهو مدة صلاحها.قال ابن المسيب: لا يكون في النخلة أكُلُها إِلا شهرين.ومن قال: كل ساعة، أشار إِلى أن ثمرتها تؤكل دائمًا.قال قتادة: تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف.قال ابن جرير: الطلع في الشتاء من أُكلها، والبلح والبُسر والرطب والتمر في الصيف.فأما الحكمة في تمثيل الإِيمان بالنخلة، فمن أوجه:أحدها: أنها شديدة الثبوت، فشبِّه ثبات الإِيمان في قلب المؤمن بثباتها.والثاني: أنها شديدة الارتفاع، فشُبِّه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها.والثالث: أن ثمرتها تأتي كل حين، فشُبِّه ما يكسب المؤمن من بركة الإِيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين على اختلاف صنوفها، فالمؤمن كلما قال: لا إِله إِلا الله، صَعِدَتْ إِلى السماءِ، ثم جاءه خيرها ومنفعتها.والرابع: أنها أشبهُ الشجر بالإِنسان، فإن كل شجرة يقطع رأسها تتشعب غصونها من جوانبها، إِلا هي، إِذا قُطع رأسها يبست، ولأنها لاتحمل حتى تلقَّح، ولأنها فضلة تربة آدم عليه السلام فيما يُروى.قوله تعالى: {ومثل كلمة خبيثة}.قال ابن عباس هي الشِّرك.وقوله: {كشجرة خبيثة} فيها خمسة أقوال:أحدها: أنها الحنظلة، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال أنس، ومجاهد.والثاني: أنها الكافر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.وروى العوفي عنه أنه قال: الكافر لا يُقبل عمله، ولا يصعد إِلى الله تعالى، فليس له أصل في الأرض ثابت، ولا فرع في السماء.والثالث: أنها الكَشُوثَى رواه الضحاك عن ابن عباس.والرابع: أنه مَثَل، وليست بشجرة مخلوقة، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس.والخامس: أنها الثوم، روي عن ابن عباس أيضًا.قوله تعالى: {اجتثت} قال ابن قتيبة: استُؤصلت وقُطعت.قال الزجاج: ومعنى اجتثثت الشي في اللغة: أخذت جُثته بكمالها.وفي قوله: {مالها من قرار} قولان:أحدهما: ما لها من أصل، لم تَضرِب في الأرض عِرقًا.والثاني: ما لها من ثبات.ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح، ولا قول طيب، ولا لقوله أصل ثابت.قوله تعالى: {يثبِّت الله الذين آمنوا}.أي: يثبتهم على الحق بالقول الثابت، وهو شهادة أن لا إِله إِلا الله.قوله تعالى: {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فيه قولان:أحدهما: أن الحياة الدنيا: زمان الحياة على وجه الأرض، والآخرةُ: زمان المساءلة في القبر، وإِلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب، وفيه أحاديث تعضده.والثاني: أن الحياة الدنيا: زمن السؤال في القبر، والآخرةُ: السؤال في القيامة، وإِلى هذا المعنى ذهب طاووس، وقتادة.قال المفسرون: هذه الآية وردت في فتنة القبر، وسؤال الملَكين، وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحق عند السؤال، وتثبيته إِياه على الحق.{ويُضلُّ الله الظالمين} يعنى: المشركين، يضلهم عن هذه الكلمة، {ويفعل الله ما يشاء} من هداية المؤمن وإِضلال الكافر. اهـ.
فهذا يبيّن لك أن الحين بمعنى الوقت، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عالٍ مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما يُنال من ثمرة النّخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبُسْر والبلح والزَّهْو والتّمر والطلع.وفي رواية عن ابن عباس: إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت.و{مَثَلًا} مفعول ب {ضَرَبَ}، و{كَلمَةً} بدل منه، والكاف في قوله: {كَشَجَرَةٍ} في موضع نصب على الحال من {كَلمة} التقدير: كلمة طيبة مشبهة بشجرة طيبة.الثانية: قوله تعالى: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين؛ ولهذا قلنا: من حلف ألاّ يكلّم فلانًا حينًا، ولا يقول كذا حينًا إن الحين سنة.وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} [الإنسان: 1] قيل في التفسير: أربعون عامًا.وحكى عِكرمة أن رجلًا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حُرٌّ، فأتى عمر بن عبد العزيز فسأله، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حينًا لا يدرك، قوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأنبياء: 111] فأرى أن تُمسك ما بين صِرَام النّخلة إلى حَمْلها، فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعًا لعكرمة وغيره.وقد مضى ما للعلماء في الحين في البقرة مستوفى والحمد لله.{وَيَضْرِبُ الله الأمثال} أي الأشباه {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ويعتبرون؛ وقد تقدم.قوله تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}.الكلمة الخبيثة كلمة الكفر.وقيل: الكافر نفسه.والشجرة الخبيثة شجرة الحَنْظَل كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وعن ابن عباس أيضًا: أنها شجرة لم تخلق على الأرض.وقيل: هي شجرة الثّوم؛ عن ابن عباس أيضًا.وقيل: الكَمْأَةُ أو الطّحلبة.وقيل: الْكَشُوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض؛ قال الشاعر: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} اقتلعت من أصلها؛ قاله ابن عباس؛ ومنه قول لَقِيط: وقال المؤرج: أخِذَت جثّتها وهي نفسها، والجثّة شخص الإنسان قاعدًا أو قائمًا.وَجَثّه قَلَعه، واجتثه اقتلعه من فوق الأرض؛ أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض.{مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أي من أصل في الأرض.وقيل: من ثبات؛ فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه، وما يصعد له قولٌ طيّب ولا عملٌ صالح.وروى معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} قال: لا إله إلا الله: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: المؤمن؛ {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن؛ {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قال: الشرك، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} قال: المشرك؛ {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه.وقيل: يرجع المَثَل إلى الدعاء إلى الإيمان، والدعاء إلى الشرك؛ لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء.قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت}.قال ابن عباس: هو لا إله إلا الله.وروى النسائي عن البَرَاء قال: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} نزلت في عذاب القبر؛ يقال: مَن ربك؟ فيقول: ربّيَ الله وديني دين محمد، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ الله الذين ءَامَنُواْ بالقول الثابت في الحياة الدنيا وَفِى الآخرة}.قلت: وقد جاء هكذا موقوفًا في بعض طرق مسلم عن البَرَاء أنه قوله، والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم وكتاب النَّسائي وأبي داود وابن ماجه وغيرهم، عن البَرَاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وذكر البخاريّ؛ حدّثنا جعفر بن عمر، قال حدّثنا شُعْبة عن عَلْقمة بن مَرْثَد عن سعد بن عبيدة عن البَرَاء بن عازب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقعد المؤمنُ في قبره أتاه آتٍ ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فيِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفيِ الآخِرَةِ}» وقد بيّنا هذا الباب في كتاب التذكرة وَبَيَّنَّا هناك من يُفتَن في قبره ويُسأل، فمن أراد الوقوف عليه تأمّله هناك.وقال سهل بن عمّار: رأيت يزيد بن هرون في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أتاني في قبري مَلَكان فظَّان غليظان، فقالا: ما دِينك ومن ربك ومن نبيّك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت: ألمثلي يقال هذا وقد عَلَّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة؟ فذهبا وقالا: أَكَتَبْتَ عن حَرِيز بن عثمان؟ قلت نعم! فقالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله.وقيل: معنى، {يُثَبِّتُ اللَّهُ} يُديمهم الله على القول الثابت، ومنه قول عبد الله بن روَاحَة: وقيل: يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت.وقال القَفَّال وجماعة: {فِي الحياة الدنيا} أي في القبر؛ لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، {وَفيِ الآخِرَةِ} أي عند الحساب؛ وحكاه الماورديّ عن البَرَاء قال: المراد بالحياة الدنيا المُسَاءلة في القبر، وبالآخرة المُسَاءلة في القيامة: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي عن حجتهم في قبورهم كما ضَلّوا في الدنيا بكفرهم فلا يُلقِّنهم كلمة الحق، فإذا سُئِلوا في قبورهم قالوا: لا ندري؛ فيقول: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ؛ وعند ذلك يُضَرب بالمقامِع على ما ثبت في الأخبار؛ وقد ذكرنا ذلك في كتاب التذكرة.وقيل: يمهلهم حتى يزدادوا ضلالًا في الدنيا.{وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} من عذاب قوم وإضلال قوم.وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مُسَاءلة مُنْكَر ونكِير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله أيكون معي عقلي؟ قال: «نعم» قال: كُفيتُ إذًا؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. اهـ.
|